27 يوليو 2011

الشعر مصدراً تاريخياً: أرجوزة ابن المعتز أنموذجاً

الشعر من أهم المصادر التاريخية، اتفق على ذلك المؤرخون من كل لغة وجنس. وغير خافٍ المكان الذي احتله الشاعر الإغريقي هوميروس، فقد كان مصدراً رئيساً لهيرودوتس، الذي أُطلق عليه (أبو التاريخ)، على الرغم من معارضة الكثيرين لهذه التسمية، يبقى أول من ضرب مثالاً حياً لأهمية الشعر كمصدر تاريخي. وعندما يُقارن الشعر بالمصادر الأخرى، التاريخية والدينية والقضائية إلى آخره، تتجلى صورة واضحة لأحداث وروح العصر، ما كنا لنراها لولا تنوع المصادر وتعددها.
ونحن هنا نأخذ قصيدة ابن المعتز مثالاً، ونرى كيف يقربنا الشعر من روح العصر التي لا تتضح بشكل كامل في المصادر التاريخية. ولعله من المناسب هنا أن نُعرّف باختصار بابن المعتز: هو أبو العباس عبدالله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد. كان أديباً بليغاً وشاعراً مطبوعاً، وله ديوان مطبوع منشور. تولى الخلافة ليوم وليلة، في ٢٠ ربيع الأول ٢٩٦هـ، ثم قُتل يوم الخميس ١٢ ربيع الآخر من نفس العام.
فهو إذن من البيت الحاكم في عصره، وقريب من السلطة ومطلع على الأمور منذ شبابه إلى أن بويع بالخلافة. وعلى الرغم من أنه لا يُمثّل، كغيره من الشعراء، إلا ثقافة طبقته، ورؤيتها وتفسيرها للأحداث، إلا أنه قريب من صنع القرار، وقريب أكثر من غيره من ثقافة صانعي القرار. وتُعدّ أرجوزته هذه التي سأوردها بعد قليل، دليلاً داعماً قوياً لما ورد في الكتابات التاريخية من انتشار الفوضى، وانعدام الأمن، والظلم والعسف الذي كان واقعاً للدولة في ذلك الوقت. وأسباب ذلك تجدها أيها القارئ الكريم مبسوطة في البحوث التاريخية الحديثة.
فلنرى كيف تعكس لنا أجزاء من هذه الأرجوزة صورة وروح المجتمع بحكامه ومحكوميه:

يصوّر ابن المعتز الانفلات الأمني في الشارع:

وكم  فتاةٍ  خرَجت  من  منزلِ    فغصبوها نفسها في المَحفَلِ
وفضحوها  عند  من  يعرفها    وصدّقوا العشيق كي يقرفها
وحصَلَ الزوج لضعف حيلته    على    نواحه   ونتف   لحيته

ويقول عن كيفية استخراج أموال الناس لضمها لخزينة الدولة:

يأخُذُ من هذا الشقيّ ضيعته     وذا    يُريدُ     ماله    وحرمته
وويل  من  مات  أبوه  مُوسرا     أليس  هذا   مُحكَماً   مُشَهَّرا
وطال  في دار  البلاء  سجنهُ     وقال   من  يدري  بأنك  ابنه؟
فقال  جيراني  ومن  يعرفني     فنتفوا   سِبالَهُ   حتى    فَنِي (١)
وأسرفوا  في   لكمه   ودفعه     وانطلقت  أكفّهم  في   صفعه
ولم  يزل في أضيق الحبوس     حتى   رمى   إليهم   بالكيس
وتاجرٍ   ذي    جوهر    ومالِ     كان   من  الله  بأحسن  حالِ
قيل    له   عندكَ     للسلطان     ودائع       غالية       الأثمان
فقال لا والله   ما  عندي    له     صغيرة   من   ذا  ولا   جليلة
وإنما   ربحتُ  في   التجارة     ولم أكن في المال ذا  خسارة
فدخّنوه     بدخان       التبن     وأوقدوه       بثفال        اللبن (٢)

ويواصل:

فكم    وكم    من    رجل     نبيل      ذي    هيبة    ومركب    جليل
رأيته         يعتل         بالأعوان      إلى  الحبوس  وإلى  الديوان
حتى أُقيمَ  في  جحيم  الهاجرة      ورأسه   كمثل   قدر    فائرة
وجعلوا     في     يده      حبالا      من  قنّب   يقطع     الأوصالا (٣)
وعلقوه    في    عرى     الجدار      كأنه    برّادة     في     الدار
وصفقوا   قفاه   صفق   الطبل       نصباً   بعين    شامت   وخل
وحمروا    نقرته     بين    النقر       كأنها  قد  خجلت  ممن  نظر
إذا استغاث من سعير الشمس       أجابه   مستخرج       برفس
وصبّ   سجان   عليه     الزيتا       فصار     بعد    بزّة     كميتا (٤)
حتى   إذا   طال    عليه الجهد       ولم   يكن    مما    أراد     بد
قال  أذنوا  لي  اسأل  التجارا       قرضاً    وإلا    بعتهم   عقارا
وأجلوني     خمسة        أياما        وطوقوني    منكم        إنعاما
فضايقوا    وجعلوها     أربعة        ولم  يؤمل  في   الكلام  منفعة
وجاءه      المعينون      الفجرة        وأقرضوه    واحداً      بعشرة
وكتبوا  صكاً   ببيع    الضيعة        وحلفوه       بيمين        البيعة

قال ابن المعتز هذه الأرجوزة يُصوّر طغيان بعض الوزراء وخصومه من الأمراء، وهذا لا يهمنا هنا، فنحن نعرف أن ابن المعتز كغيره من الناس، قد ينسب الفعل المشين لخصمه لأسباب سياسية أو حتى اقتصادية. ما يهمنا هنا، وما تثبته هذه الأرجوزة، هي ممارسات الدولة، ولا أقول الوزير أو الأمير الذي سمّاه ابن المعتز، في التحقيق وأساليبها في التعذيب. فهذه الأساليب التي ذُكرت هي منهج سارت عليه الدول، والعباسية بالخصوص ومن تبعها، بل أحياناً يأمر بها القاضي الشرعي؛ هذه الأساليب لا تنشأ بين ليلة وضحاها، بل هي منهج، وأسلوب، قد يخفّ ويخفت أحياناً، ولكنه يظهر من جديد لأنه أصبح متجذّراً، له موظفيه، والقائمين عليه. ولهذا قلت فيما سبق أن الأرجوزة مصدر داعم لما ورد في كتب التاريخ والفقه والأدب، مصدر يدلنا على ممارسات الدولة في التحقيق، وهو غالباً بالتعذيب، مهما كان الذنب صغيراً أو كبيراً، لا فرق.

وأخيراً فلنعرّف بما غمض من الأرجوزة:


١ - "فنتفوا سباله حتى فني" السِّبال: جمع السَّبَلة، أي الشارب.
٢ - "فدخنوه بدخان التبن". التدخين من أساليب التعذيب المعروفة في التاريخ الإسلامي، يوضع المُعذّب في غرفة ثم تُشعل النار في التبن فيُدخلوا عليه دخانها، وكثير من الناس قد مات بهذا الأسلوب.
٣ - القنب: نبات لحاؤه ليفي تُفتل منه الحبال.
٤ - أصبح كميتاً: أي أصبح لونه بين السواد والحمرة.

آمل أن يكون المثال أعلاه قد وضّح، ولو شيئاً قليلاً، من أهمية الشعر كمصدر تاريخي.

هناك تعليقان (2):

  1. اختيار موفق، يظهر فيه شبه البارحة باليوم، نسأل الله السلامة، ومع ذلك فإن كتب الفقه وغيره من الفنون فيها الكثير، وخصوصاً كتب الفتوى، والتي تطغى بمثل هذا الظلم الفاضح.
    بارك الله فيك أبا عبدالله ونفع بك....

    ردحذف
  2. أبو عبدالله عبدالرحمن01 أغسطس, 2011

    أعجبتني المقالة... بس تمنيت شي واحد... تمنيت إني أنا اللي كاتبها

    ردحذف