أعتذر مسبقاً أيها القارئ الكريم إن وجدت هذه التدوينة تدوينة جافة. فهي في التنظير لعلم التاريخ (فلسفة التاريخ). والتنظير جاف دائماً، ولكنه ضروري لأهل التخصص.
يدور بين المؤرخين حوار ونقاش عن ماهية "الدليل" في التاريخ. وهل هناك فرق بين التاريخ (history) والماضي (past). يذهب إدوارد كار، إلى أن الفرق موجود! ودعوني أضعها كما وضعها كيث جنكنز: أ) الماضي عبارة عن أحداث وقعت. ب) وقد بقيت لها آثار. ج) وتلك الآثار موجودة سواء بحث عنها المؤرخ أم لم يفعل. د) وعندما يستخدم المؤرخ بعض تلك الآثار لإثبات رأي ما، فإنها تصبح "أدلّة" (تفسيرات). ولا تُسمى بهذا إن لم يستخدمها.
إذن، فالدليل (بعكس الأثر) دائماً ما يكون من إنتاج وصناعة المؤرخ. والدليل (التفسير)، هو التاريخ. والأثر (الخبر) هو الماضي. فالتاريخ إذن لم يوجد قبل أن يكون هناك تفسير للأحداث (دليل)؛ وإنما كان هناك فقط آثار الماضي (خبر).
وهناك رأي آخر يقول: إن الأثر هو الدليل (التاريخ)، لأنه يفرض نفسه على المؤرخ، فلا يكون أمامه خيار سوى أن يدعه يتحدّث عن نفسه. إذن فمهمة المؤرخ هنا، وبخلاف الرأي الأول، هي التنقيب عن تلك الآثار (الأحداث) في المصادر، وتنسيقها ووضعها أما القارئ، دون تدخّل منه أو محاولة تفسير أو إعادة بناء للأحداث، لأنها قادرة على أن تتحدّث عن نفسها. فالتاريخ هنا يُعتبر هو الماضي، وليس ثمّة فرق بينهما.
شخصياً أميل إلى الرأي الأول، فأحداث الماضي دون تفسير وتحليل أقرب إلى القصص منها إلى التاريخ. كأنها حكايات من إبداع روائي، نستمتع بها، ونتعجّب من أحداثها، ولكن لا نستطيع الاستفادة منها، لأنها في النهاية مجرّد رواية لم تخضع لأي اختبار. أما إن حُلّلت تلك الأحداث، وقُدِّم لها تفسيراً من خلال مقارنتها بغيرها، وأعيد بناءها في ضوء شواهد أخرى متنوّعة، جاز لنا عندها أن نُطلق عليها مسمّى (التاريخ).
ما سبق أيها القارئ الكريم لا يصحّ أن تعتبره حقيقة وقاعدة علمية لأن من قالها هم من منظري التاريخ. الصحيح أن ينظر المؤرّخ بنفسه في تلك المناهج، ويختبرها بالتجربة، وعرضها على قضايا متنوعة تمرّ به خلال دراسته وأبحاثه. عندها فقط سيصل إلى قناعة، وسيختار وينتهج أحد تلك المدارس، أو حتى يخرج باتجاه جديد.
أتفق معك في رايك أن "الأحداث دون تفسير أو تحليل أقرب الى القصص " ولذلك عندما كنا ندرس التاريخ في مرحلة البكالريوس كانت احدى الدكتورات تشدد على ان التاريخ ينمي الفكر الناقد وحتى تكون هذه المدونة عملية يمكن تطبيقها على ارض الواقع لابد من تفعيل دور الطالب داخل قاعة المناقشة وان لا يكون الجانب السردي هو المسيطر الطالب يستطيع ان يذهب للمكتبة ويقرأ بنفسه ولكن ليس كل الطلبة على قدر من المعرفة بكيفية
ردحذفالتفسير عن طريق المقارنات الصحيحة شاكرة لك هذه المدونة. مؤرخة في مرحلة الدراسات العليا.
اتفق مع الرأي الأول ولكن أمام المؤرخ مهمة أصعب من عملية التحليل والتعليل وهي فهم واستيعاب المناخ التاريخي والسياق الفكري للمجتمع والعصر الذي وقعت فيه الاحداث، وإلا يصبح المؤرخ يحلل الاحداث بروح عصره هو وليس بروح العصر الذي وقعت فيه، وهنا يصبح المؤرخ يرسم صورة متخيلة فيها اسقاطات عصره.
ردحذفشكراً لصاحب المدونة ... الذي يثري هذا العلم بالجديد والمفيد
مساء الخير :
ردحذفالسؤال يثير التأمل ... ويبدو ( كمجرد انطباع مبدئي ) أن الماضي هو في الحقيقة ( ماضيان ) ؛ ماض ٍ نعرفه ونجد شواهده من خبر ٍ أو أثر ـ أو يُمكن أن نعرفه ـ ، وماض ٍ لا نعرفه . ومن هنا يظهر لنا أن الأجوبة المقدمة عن هذا السؤال اقتصرت فقط على الماضي المعروف أو الممكن معرفته نظراً لوجود الشواهد . ولكن ماذا عن الماضي غير المعروف ؟ هناك ظواهر في دنيانا وذات تأثير مهم في حياتنا تحدّرت إلينا من الماضي السحيق ، لكنها بلا تاريخ فيما أحسب !! خذ مثلاً : ظهور اللغة العربية ( أو أية لغة أخرى ) وتبلورها على هذا النحو الذي نقول به ونكتبه . متى ظهرت ؟ هل توجد لحظة تاريخية حاسمة تقبض على وقت ظهورها وموقف الناس منها حين ظهرت ، كظهور الإسلام مثلاً ( أو ظهور الديانات عموماً ) ؟ لا أجد عنها أخباراً متواترة ، ولو وجدت أخبار عن تاريخ محدد لظهورها لما قبلناها أصلاً ! كما لا يوجد عنها آثار قائمة يمكن استنطاقها واستحلاب المادة التاريخية منها . وجُل ما يفعله علماء اللغة المقارن في دراسة المعضلة هو اللجوء إلى الافتراضات والنظريات . إذاً : هناك ظواهر أكبر من التاريخ ، أو لا تاريخية ، أو متجاوزة ، أو تستعصي على الأترخة ـ إن صح التعبير ـ .
لقد سأل عن الفرق ( بين الماضي والتاريخ ) ، فجاء الجواب عن ( الفرق بين الماضي المعروف والتاريخ ) فأسقط الماضي غير المعروف من حساباته . السؤال أكبر من الجواب .
وأمر ٌ ثان ٍ أشير إليه : كلنا نقول بوجود تلازم وثيق بين كلمتي ( التاريخ ) و ( الماضي ) ؛ وحينما نعيد النظر في مقولتنا كرة أخرى ؛ يخيل إلينا أحياناً أن بينهما تنافر لاختلاف جنسيهما . فالماضي وحدة زمنية لا يقابل إلا بمايجانسه من وحدات الزمن ، كالحاضر ، أو المستقبل . وأما التاريخ فأداة ذهنية أو عملية منهجية تستهدف عقلنة الماضي وترتيب صورته . ومن هنا انطلق إلى القول بأن هذه الأداة المستعملة في تفكيك حوادث الدهور والعصور وتحليلها ، والمسماة ( التاريخ ) يمكن توظيفها أيضاً في دراسة الحاضر والإجابة عن تساؤلاته الراهنة ، كما يمكن توظيفها في قراءة المستقبل واستشفاف ملامحه المقبلة . فالتاريخ غير مستقر في الماضي ، ولكن ينطلق منه ، والحاضر هو نقطة التقاء الماضي بالمستقبل . ربما جاز تشبيه الماضي بالمياه الجوفية في باطن الأرض ، ويراد الكشف عنها واستخراجها بآلة حفر ، وهي ( التاريخ ) . الأول : مادة ، بينما الثاني : آلة .
...... تحياتي ......
أتفق مع التفسير الأول للأثر؛ ولكن السؤال المطروح، أين تدرج دراسة المؤرخ لآثار الأحداث التاريخية؟ فالمؤرخ في جيمع الأحوال هو من يتناول آثار الأحداث التاريخية بالبحث، حتى يتمكن من الوصول بها إلى درجة "الدليل" وبالتالي يقوم بالتفسير للحدث التاريخي، مؤيداً تفسيره بالأدله التي تحصل عليها.. ولكن إذا قام بدراسة "الأثر" دون أن يتوصل به إلى درجة "الدليل".. فماذا نسمي هذه الدراسة؟؟ طبقاً لرأي جنكنز هي دراسة للماضي وليس دراسة للتاريخ.. فتحت ماذا تدرج دراسة الماضي، إذا لم تدرج تحت علم التاريخ؟
ردحذف