كانت الدراسة الجامعية، أو الدراسة في المعاهد العليا تنحصر في الأغنياء، ويزاحمهم النوابغ الذين يدرسون مجانًا على نفقة الحكومة أو المؤسسات الوقفية، إلى عهد قريب. وكان هذا السائد المعروف؛ حتى أنك تجد العائلة تقتصر على أنبغ أولادها ليكمل دراسته، بينما يكتفى بأن يتعلم بعض من بقي القراءة والكتابة. ثم بدأ التعليم يصبح إجباريًا إلى الابتدائية، ثم تطور ذلك إلى إنهاء الثانوية.
ولعل أول علامات الدخول في عصر (التعليم الجامعي للجميع) كان في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً بعد عودة الجنود من الحرب العالمية الثانية. فارتأى الساسة هناك -أو معظمهم على الأصح- أن بقاء أولئك الجنود، ومعظمهم شباب في بداية العمر، بلا فرص مجزية وهم مدربون على القتال، فيه ما فيه من الخطر والمجازفة؛ فأعلنت أن جميع الجنود العائدين لهم الحق في إكمال تعليمهم العالي وتحسين فرصهم الوظيفية. وكان هذا بالطبع تحت ستار جميل من نحو: الاعتراف بالجميل، ورد جزء مما ضحى به أولئك الجنود. وحرص أولئك الجنود بعد الحصول على وظائف مجزية على هجر الريف والعمل اليدوي، وتوفير فرص مشابهة لأبنائهم وبناتهم. وباقي القصة يعلمها ويراها الجميع إلى اليوم. وسار العالم في سياسة التعليم العالي على هذا النهج.
لكن اليوم عادت كلمات نسمعها بين الحين والآخر في الولايات المتحدة بأن التعليم العالي ليس للجميع. تسمعها صريحة قليلاً جدًا، ولكن تراها واضحة جلية في الشروط والتكلفة المادية التي أصبحت تثقل كاهل الطالب فيمكث عمره الوظيفي كله يسدد دفعات دين الدراسة. وبدأ التساؤل: هل تستحق الشهادة الجامعية كل هذه الأموال؟
يعلم المتابع للتعليم العالي الأمريكي وقضاياه أن الخريج الجامعي يقضي سنوات يعمل بمرتب دون ما يستحقه تأهيله الجامعي، بل هذا هو حال المحظوظ. طبعًا هذا لا ينطبق على المتميز في تخصصه إن كان تخصصه مطلوبًا، وهم قلة.
وذلك السوق الكبير للعمالة اليدوية الذي قضى عليه التعليم الجامعي وأحاله إلى العمالة الوافدة من أمريكا اللاتينية أو من شرق أوروبا، والهجرات الكبيرة من الريف إلى المدن الكبرى. كل هذا جعل الجميع يعيد النظر في هذا المفهوم. وهم ما يزالون بين أخذ ورد حول هذا الإشكال وسبل حله.
فهل سيستمر التعليم الجامعي حق للجميع، وتستمر أفواج العاطلين عن العمل بسبب تأهيل أكبر من الوظائف المتاحة؟ أم يعود المفهوم القديم ويلتحق بالتعليم العالي النابغ المفيد، أو الغني الذي يريد الشهادة الجامعية وجاهة ولن يعمل بمقتضاها أصلاً؟ هذا ما ستبينه الأيام لهم. ولكن بقية العالم لم يكن بمعزل عن بداية هذا الاتجاه الأمريكي، ولن يكون حتمًا بمعزل عن تحوّله الجديد.
افتقدتك كثيرًا في تويتر يا مؤرخنا .. أين ذهبت وبلا سابق إنذار؟
ردحذفأهلا وسهلا ومرحبا أخي محمد .. أشكر لك مشاعرك الطيبة، ولعلك تجد هنا ما يعيض عن تويتر.
حذف