29 ديسمبر 2013

ما الهدف من عدم تعديل خطأ النص المُقتبَس؟

لماذا لا يُتاح للباحث إثبات الهمز، أو تنقيط التاء المربوطة مثلاً إن لم تكن كذلك في الأصل المقتبس عنه؟ الإجابة: أن الباحث قد يُخطئ. فقد يثبت همز ألف ممدودة، أو يضع همزة علوية والصحيح أنها تحتية، ويعتقد أن سقوط نقط (الذال) خطأ مطبعي، فيثبتها وهي في حقيقتها (دال) ... إلى آخر هذه الاحتمالات. وهكذا شوّه النص من حيث أراد إصلاحه. 


وقد يرد عند أصحاب هذا الرأي تفصيل، فتتشعب الآراء وتتعدد، بعدد أصحابها. يذكر مثلا أخي الدكتور عبدالرحمن السعيد، أن التعديل لا يجوز في الكتب الحديثة (المراجع)، لكنه يجوز في الكتب المحققة (المصادر). ويسوّغ هذا بأن المرجع كتبه هكذا، وراجعه مؤلفه. أما المصدر فقد غيّر المحقق رسم كلماته لما يوافق قواعد إملاء وقته، فهو عدّل ابتداءًا، فجاز تعديل خطئه.
في المقابل، هناك من يتساهل في هذا الأمر، ويستثني (الهمز) و (التاء المربوطة) مما لا يجب تعديله. ويرى وجوب تعديل الخطأ المطبعي في النص المقتبس دون إشارة. ولكن متبعي هذا النهج الأخير قليل جدًا. وليس لهم مبرر -فيما أعلم- إلا اتهام الفريق الآخر بالتزمت. دون إبداء أي رد جدلي على منهجهم. 
فكما ترى أخي القارئ، من منع التعديل والتصحيح ساوى بين الناس جميعًا، ووضع قاعدة يسيرون عليها. ومن أيّد التعديل، افترض في الباحثين جميعًا بعدهم عن الخطأ والوهم، ووصولهم إلى قمّة علم اللغة.
وأنا من مناصري عدم التغيير، مع الالتزام بالإشارة والتنبيه في الهامش إن لزم الأمر، وإلا يُكتفى بإضافة [كذا] بعد الخطأ ليتنبه القارئ إلى انتباهك له. وأسمع أحيانًا من يتهم الملتزم بعدم التغيير بمجاراة الغرب ومناهجه، وهذا يدل على قلّة اطلاعه على تراثه الذي اتهم الآخرين بإهماله والبعد عنه، وهذه عادة من ضاق أفقه. أذكر لك مثالاً واحدًا مثله كثير في كتب علماء المسلمين يحثّون الكاتب على عدم تغيير الخطأ عند النقل، فهذا القاضي عياض بن موسى اليحصبي (ت ٥٤٤هـ) في كتابه ( الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ) يقول:
"الَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ أَكْثَرِ الْأَشْيَاخِ نَقْلُ الرِّوَايَةِ كَمَا وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ وَسَمِعُوهَا وَلَا يُغَيِّرُونَهَا مِنْ كُتُبِهِمْ حَتَّى أَطْرَدُوا ذَلِكَ فِي كَلِمَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ اسْتَمَرَّتِ الرِّوَايَةُ فِي الْكُتُبِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ التِّلَاوَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَلم يجىء فِي الشَّاذِ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمُوَطَّأِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا حِمَايَةٌ لِلْبَابِ لَكِنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ مِنْهُمْ يُنَبِّهُونَ عَلَى خَطَئِهَا عِنْدَ السَّمَاعِ وَالْقِرَاءَةِ وفى حَوَاشِي الْكُتُبِ وَيَقْرَءُونَ مَا فِي الْأُصُولِ عَلَى مَا بَلَغَهُمْ."
 ثم ذكر لماذا بالضبط يُكره التعديل فقال:
"لَكِنَّهُ رُبَّمَا وَهَمَ وَغَلِطَ فِي أَشْيَاءٍ مِنْ ذَلِكَ وَتَحَكَّمَ فِيهَا بِمَا ظَهَرَ لَهُ أَوْ بِمَا رَآهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَرُبَّمَا كَانَ الَّذِي أَصْلَحَهُ صَوَابًا وَرُبَّمَا غَلِطَ فِيهِ وَأَصْلَحَ الصَّوَابَ بِالْخَطَأِ".
فها أنت ترى سلمك الله أن المسألة ليست طارئًا حديثًا غفل عنه الأوائل، بل هي تقليد قديم اهتدى إليه العلماء بعدما عانوه من التصحيف والتحريف بحجّة "إصلاح الخطأ". والله تعالى أحكم وأعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق