د. تركي بن فهد بن عبدالله آل سعود
قسم التاريخ - جامعة الملك سعود
يبدو أن العنوان تعريف لما لا يُعرَّف، فالجميع يعلم أن المؤرخ إنسان، لكن لو راجعت نفسك قليلاً فستجدك تطلب منه في حالته المثالية أن يتحول إلى آلة، دون فكر أو مشاعر أو توجُّهات. فجميعنا يتغنى بالمؤرخ المتجرد النادر الوجود. وأنا هنا أقول لك، أيها القارئ الكريم: إذا جرّدت الإنسان من عواطفه وفكره وتوجهاته، فقد حوّلته إلى آلة.
عندما نقرأ لمؤرخ يأخذ الأحداث من المصادر ويحللها ويفسّرها، أو حتى عندما نقرأ مذكرات شخص يعتبر شاهد عيان على ما يرويه، يجب ألا يغيب عن أذهاننا أبداً أننا نقرأ لإنسان كامل الإنسانية، تحرّكه مشاعره وأحاسيسه، ويفهم الأمور حسب ثقافته ومعلوماته. إن وصَف ألماً فهو يصفه قياساً على تجربته الشخصية، ويزيد الوصف وينقصه، ويبعد من الحقيقة ويقترب حسب تلك التجربة. وليس هناك تجربتان على وجه الأرض يتطابق شعور صاحبيهما بهما؛ لأن الشعور هو الذي يحكم، وليس الحدث نفسه.
فإن علمنا هذا وفهمناه، فلنقف للحظات مع تعريف الميل المذموم والميل الطبيعي المتوقع. فالميل المذموم الذي يقدح في المؤرخ، هو التغييب المتعمد لمعلومات مضادة لتوجهه وعواطفه وفكره، وإن فعل ذلك فلا مصداقية له!
أما الميل الطبيعي الذي يجب أن تتوقعه من أي إنسان، فهو في فهمه لتلك الأحداث وتفسيره وتحليله لها. وهذه طبيعة بشرية، متغلغلة في طبع الإنسان وجزء من بشريته؛ فإن عبتها ولم تقبل بها، فلا تقرأ كتاباً واحداً، لأن فيها جميعاً ميلاً طبيعياً.
حتى لو قرأنا، أنا وأنت معلومة واحدة، ففهم كل واحد منا لها قد يختلف عن فهم الآخر، بحسب اختلاف الثقافة والتجارب والعواطف والفكر والاتجاهات؛ وكلانا كباقي البشر، يحب ويبغض، يتألم وينعم؛ فهذه هي المشاعر والخبرات التي لا يمكن أن نتجرّد منها، ولا يمكن أن تتطابق تماماً بيننا.
وحتى لو لم يكن موضوع كتاب المؤرخ يمت إليه بصلة، وعدّ نفسه محايداً (طرفاً ثالثاً)، فبأي منظور يحكم على الأمور يا ترى؟ وبأي ميزان سيزنها؟ أليس ذلك كله تبعاً لثقافته ومشاعره؟ هل يستطيع المسلم أو المؤمن بدين سماوي تفهُّم تقديم البشر قرابين لآلهة ما؟ وهل يستطيع أن يكون حيادياً متجرداً من مشاعره عادلاً بالنظر بعين كل طرف من الأطراف، عندما يروي أو يحلل أو يفسّر دوافع إبادة قرى كاملة؟ إن كنت تأمل هذا وتنتظره، يؤسفني أن أخبرك أنه لا يوجد، ومشاهدتي معك للعنقاء بأم عيننا أقرب من ذلك!
إذن، آمل ألا تضيع وقتك في البحث عما لا وجود له، وابدأ التعامل مع إخوانك من بني البشر من المؤرخين، واعرفهم قبل أن تقرأ لهم، فستجد أنك اقتربت إلى فهمهم أكثر، واستطعت أن تفرّق بين ما تدخّلت فيه مشاعرهم بقوة، وما راعوا فيه الحياد قدر ما استطاعوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق