04 فبراير 2012

هل يُزوَّر التاريخ؟

هذا سؤال سرمدي، لا يتوقف طرحه أبداً؛ ولكني لا أسمعه من مؤرخ إلا فيما ندر. دعونا أولاً نتفق ماذا يقصد بالتاريخ  طارح هذا السؤال، معظم من استفسرت منهم يقصدون به المصادر، أو المؤرخ. إذن، بدأ الاختلاف منذ البداية بين ما أقصده أنا وتقصده أنت.

ما التزوير الذي نقصده هنا: لكي يستقيم الحديث فنحن نقصد قلب مسببات ومجريات ومعنى الأحداث عن عمد لتحقيق مصلحة ما. أما سوء الفهم وقلة المعلومات واضطرابها فلا تُعدّ تزويراً.
فإن سألتني: هل يزوّر المصدر؟ أجبتك: نعم، قد يكون ذلك. فإن سألت: هل يزوّر المؤرخ؟ أجبت: نعم، قد يفعل. فإن وصلت إلى سؤال: هل يزوّر التاريخ؟ أجبتك: لا، ولا، ولا، لأنه عندي مستحيل.
إذن ما نقطة الخلاف بيننا؟ هي أنك تسمي كتابًا أو مجموعة كتب، أو وثائق، أو غيرها من المصادر، "تاريخًا". أما أنا فلا أفعل ذلك، وأراه مستهجناً. التاريخ أيها القارئ الكريم ليس مصدراً يقرأ، أو أثراً يُتأمّل، أو شعراً يُنتحل، أو رسمة وصورة يعدّل ما فيها ويُبدَّل. التاريخ أكبر من ذلك بكثير، وعلم التاريخ هو دراسة كل ذلك، ومقارنته -وإن شئت قلت: ضرب بعضه ببعض- إلى أن تصل إلى أقرب نقطة لحقيقة الحدث. 
ولعلك تعرف، أنك عندما تقرأ ما كتبه مؤرخ ما عن حدث معين، ولنفترض هنا تجرّده من الأهواء والمصالح-إلى حدٍّ مقبول-، فأنت لا تقرأ حقيقة الحدث، بل تقرأ رؤيته وفهمه هو للحدث. وهذا معلوم لدى المؤرخين، ومجهول لدى القُصّاص، فاختر من تقرأ لهم. 
لنفترض أيضاً أن المنتصر غلب وأفنى خصمه، وكل ما أنتجه ذلك الخصم من أدب وكتابات وروايات، وأخذ المنتصر ينشر ويروّج أسبابه لغزو وإبادة المنهزم، وبطبيعة الحال لن تكون تلك المعلومات إلا في صالح المنتصر. فما العمل إذن، وكيف تُستخلص الحقيقة المغيّبة؟ اعلم رعاك الله، أن الدلائل كلها التي يحتاجها المؤرخ لا تُطمس، فهذا مستحيل، ولو استطاعه أحد لفعله الرومان، وغيرهم ممن هزم أقواماً ومحا أثرهم، وكتب عنهم ما يشاء. ولكن المؤرخ نفسه إن تكاسل وتقاعس ورجع إلى المصادر المعروفة فقط، وهو بعيد عن أرض الحدث، وبعيد عن الشواهد والاكتشافات الأثرية، وبعيد كذلك عن الأبحاث التي تكتب طوال العام عن العصر محل الدراسة وتأتي بمعلومات وأفكار جديدة محرّكة للمياه الراكدة، فهو إذن السبب في غياب الحقائق، واستمرار شيوع وجهة نظر المنتصر، دون تساؤل وتحدي واستقصاء للرواية الواحدة. 
نرى إلى اليوم مؤرخ ينعت الشعوب السلتيين وغيرهم، ممن سمتهم روما "برابرة" وأطلقت عليهم حملة إعلامية -إن صح التعبير- تجعلهم أشبه بالحيوانات الضالة منهم بالبشر، دون أن يتسائل من الذي أباد الآخر ودمّر مدنه وتراثه؟ والمؤرخون يرون أمام أعينهم الأثر الذي نصبه الرومان بعد انتصارهم، وكل ما يوحي به هو مخالف تماماً لرواياتهم التي كتبها مؤرخيهم. فأين إعمال العقل والمقارنة والمقابلة؟ وما زالت آثار حصونهم قائمة، وأسوار مدنهم التي يبلغ طول أحدها، في بيبراكت، ٤٠٨ كم، ومثلها عشر مدن. فكيف يجوز في عقل باحث أن مدينة بهذا الحجم بناها همج لا علم لهم، ولا تجارة، ولا أدب وفن؟ هذا غير ما تم اكتشافه من آثار منذ نشأة هذا العلم، من تقويم معقد جداً، وطُرق مجهّزة لأحمال ثقيلة، وعملاتهم الذهبية، التي لم يكن هناك مثيل لها عند الرومان قبل أن يغزوهم ويحتلوا مدنهم. إلى آخر ذلك من دلائل. ومع ذلك، نجد إلى يومنا هذا من يكتب عنهم ومصدره كتابات الرومان!
باختصار: التاريخ لا يزوّر، ولكننا نقرأ المصادر المزوّرة وحدها، ثم نحكم بأن "التاريخ" مزوّر ويكتبه المنتصر. وهذا ليس عيب في التاريخ، لأنه أمامنا بكل أسراره التي تنتظر أن نكتشفها، ولكنه عيب فينا نحن، لضعف هممنا، واتكالنا على السهل القريب.
ولعلك أيها القارئ الكريم تختلف معي في رأيي هذا، والاختلاف في الرأي لا يفسد الود، إن شاء الله. ولعلي غفلت عن نقطة هامة ولم أشر إليها، فالعذر منك. هذا والله أعلم وأحكم.

هناك 9 تعليقات:

  1. غير معرف04 فبراير, 2012

    أعتقد أنه حتى التاريخ الذي يسمى مزوّر به جانب من الصدق لو تمعنوا به مشكلة البعض يظن أن الكتابة من وجهة نظر واحدة تعد تزويراً للحدث ولم يعي أن المتعصب في كتابته هو يحكي وجهة نظره فقط أتفقنا معه أم أختلفنا وكما قلت سيدي الكريم أن المقارنة والتحليل هي القول الفصل .مدونة جميلة جداً جزاك الله كل خير عليها. Brttreah

    ردحذف
  2. غير معرف08 فبراير, 2012

    اتفق معك اخي الكريم في ان التاريخ لا يزور وانما من يعمل على تزويره وقلب الحقائق هو المؤرخ ولدينا ادلة على سبيل المثال من تارخنا الاسلامي وبخاصة في صدر الاسلام حيث عمل بعض الاخباريين على توظيف الاحداث حسب رؤيتهم واهوائهم وميولهم فمثلا سيف بن عمر الضبي عبر عن بعض الاحداث التي وقعت في العراق حسب رؤيته القبلية وعوانة بن الحكم حسب رؤيته السياسة والحزبية وابي مخنف حسب رؤيته السياسية وميوله العلوية فيما كان علي بن احمد المدائني حياديا في طرحه وكذلك المؤرخ الطبري الذي تعرض للأذى والمضايقات لطرحه المتوازن نسبيا لاحداث الفترة الاموية اما اليعقوبي فكان علوي الميول فوصفه وطرحه لللاحداث التاريخية في صدر الاسلام تحياتي
    د عبد الرحمن المديرس قسم التاريخ كلية الاداب جامعة الملك سعود

    ردحذف
  3. غير معرف09 فبراير, 2012

    مؤرخ:
    الموضوع متشعب ويستحق أن تفرد لكل جزئية تدوينة وبخاصة قضية تسبيب الأحداث من قبل مؤرخها لأنها برأيي تعد مفصلا رئيسا في الموضوع.
    أما تزوير الوقائع فهذه تأثيرها أقل حدة لأنها في الغالب تكتب من قبل مؤرخين آخرين
    د. عبدالرحمن (التعليق ٢):
    رؤية التاريخ من زاوية مؤدلجة قد تفيد الباحث الحصيف لكنها لا تعد - من وجهة نظري - تزويرا ولا يعد مؤرخها المؤدلج مزورا
    شكرا للجميع
    أبو عبدالله
    باحث في التاريخ الاجتماعي 

    ردحذف
  4. غير معرف17 فبراير, 2012

    أولا أشكرك على طرحك الرائع و مدنتك الشيقة, لدي استفسار بخصوص التاريخ و دراسته.

    بالنسبة لي فأنا قد درست أحد التخصصات العلمية و لكني مهتم بالتاريخ و قراءته. كيف يمكن للشخص أن يكون مؤرخا أو من علماء التاريخ ان صح التعبير. هل يوجد كتب معينة على الشخص أن يبدأ بقراءتها و ما هي الطريقة الأمثل التي تمكن الشخص من استرجاع المعلومات التاريخية التي درسها.

    شكرا

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لكلماتك الطيبة.
      خير ما تبدأ به -في رأيي- كتاب يتحدث عن ماهية التاريخ، ككتاب إدوارد كار مثلاً (ما هو التاريخ؟). وبالنسبة للشق الثاني، لا توجد طريقة مثلى، لكل إنسان طريقته الخاصة.

      حذف
  5. غير معرف17 فبراير, 2012

    لكن هل يمكن الوصول للتاريخ الحقيقي, مثلا الى الأن يتجادل الغرب و الشرق في حقيقة حدوث الهولوكوست رغم انها تعتبر من التاريخ الحديث, ايضا قضية اتهام الدولة العثمانية بابادة الارمن مما سبب ارباك في العلاقات بين تركيا و فرنسا

    فهل هو تقصير من المؤرخين في اثبات او نفي حدوث الحالتين السابقتين. و هل يمكن لؤرخ أن يفحم مؤرخ آخر ام ان التاريخ يعتمد على الاحتمالات فقد يتناقش المؤروخون لايام و في النهاية يذهب هذا لبيته و ذاك لبيته من غير امكانية اقناع الآخر لعدم و وجود حقائق

    شكرا و عذرا على الاطالة

    ردحذف
    الردود
    1. كيفية الوصول إلى أقرب نقطة ممكنة من حقيقة الحدث تعتمد على تنوع المصادر المستخدمة، وهي ممكنة. أما عن الشق الثاني، فتفسيرات المؤرخين تختلف، وهذه طبيعة بشرية في اختلاف الأفهام والرؤى، ولو زالت لما أصبح للبحث حاجة. ولكن المؤرخ يبني رأيه على أدلة طبقاً لتفسيره لها، وكذلك المؤرخ الآخر، والقارئ هو الحكم.

      حذف
  6. السلام عليكم
    شكراً على المقالة التي أراد فيها المدون أن يصل بناإلى درجة من القناعة بأن التاريخ لا يزور بل "يستحيل تزويره"، وذلك بعد أن فرّق بين مفاهيم (التاريخ ومصادر التاريخ والمؤرخ)، وعلى الرغم من أن حكمه منطقي إلى حد كبير، إلا أنه في اعتقادي قليل الاقناع، فمن المسلم به أن التاريخ بمفهومه المطروح ـ وهو مفهوم مثالي في نظري ـ يصعب تزويره، ولكن كل مفكر ومؤرخ يعلم جيداً أن المصادر التاريخية ـ القابلة للتزوير ـ هي القنوات الوحيدة التي يمكن أن نصل بها إلى حقيقة الحدث التاريخي، وتبلغ الصعوبة مداها عندما نعلم أن الحكم على مصدر تاريخي بالأصالة أو التزييف هو مضعلة كبرى صعبة الحل كذلك.. وهنا يمكن القول أن صعوبة الحكم على صحة المصدر التاريخي يتبعها بالتالي صعوبة الوصول إلى حقيقة الحدث التاريخي.

    ردحذف
  7. السلام عليكمورحمة الله وبركاته
    اشكركم واحمد الله سبحانه وتعالى ان اعثر على جهدكم فقد اسعدني !
    حقائق التاريخ يمكن تغطيتها على الناس وحتى على العلماء منهم بالأكاذيب اثناء الصراع الدائر بين الناس , بين الخير والشر , وهو الذي يسموه الامريكان , حسب ما قاله الاعلام , صراع الحضارات , وحسب ما يسمح لانفسهم اللاعبون السياسيون في كل عصر في ادارتهم لهذا الصراع !
    لكن السياسيون واصحاب السلطان اذا ارادوا ادارة الصراع للوصول الى الحق وافشاء السلام على الارض بمنهج الخالق سبحانه وتعالى الذي وضعه لهم وبغهم اياه بواسطة رسله , طمأنهم رب العالمين قائلا : (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون ) ووعدهم بالتوفيق والنصر بهذا القسم ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) .
    اي ان الاسلام النقي وحملته المسلمون الصادقون وعلى رأسهم العرب واللغة العربية في حفظ الله سبحانه وتعالى مهما استبد الأعداء الكذابون والمنافقون ! بل أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حذرنا من الدجال في آخر الزمان بشرنا بحفظ القبلية العربية حين قال عندما جائته صدقات قبيلة تميم : فربوا صدقات قومي فانهم اشد الناس على الدجال في آخر الزمان !
    والحقيقة التاريخية محفوظة بتفاصيلها بشهادة الملائكة وكتبهم للحساب يوم الحساب !
    وفي ايامنا الراهنة سخر الله منهجا صحيحا !
    عقل : 1- صريح يعتمد الدليل الصحيح 2- ويرفض ادوات المجوس من علم المنطق وعلم الكلام 3- ويرفض نظريات الفلاسفة ودائما يبحث عن الدليل الصحيح ! 4- ولا يقبل اي رواية من كذاب او خائن امانة ولو كان في اعلى منصب ديني ! فيستقصي الرواية حتى يصل اليها بسلسلة رواة صادقين بنصها الاصلي ,
    5- ثم يبدا النظر فيها بناء على مسلمات العقيدة الصحيحة باحثا في الواع المادي الذي كان قائما حين قيل او كتب و حين حدوث الحادثة التي يصفها النص !
    بعد ذلك من عد الله لنا بحفظ الحقيقة للباحثين عنها في أي زمان ومكان تقصيت سيرة سعيد بن جبير والحجاج فوجدت النصوص التي تمدح بن جبير وتمدح الحجاج هي ذاتها التي تحكم على سعيد بن جبير انه اشد النواصب على آل البيت وان الحجاج وبني امية ارحم الناس بالمسلمبن وخاصة آل البيت منهم !
    ارجو القراء الكرام جمع جميع النصوص الخاصة بالحوار الذي دار بين الحجاج وسعيد بن وجبير ويستنتج لماذا قتل الحجاج سعيد بن جبير !
    ويسعدني ان اقرا جهودكم واستنتاجاتكم مهما كانت مختلفة !
    مع اطيب التحيات
    سعيد جاموس

    ردحذف