23 نوفمبر 2009

المجتمع المثالي



في البداية دعوني أوضّح بأنني مؤمن بالحديث النبوي الشريف « خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » . وقوله صلى الله عليه وسلم واصفاً قدر أصحابه رضي الله عنهم : « فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ‏». كل ذلك مفهوم عندي قبل أن أكتب هذه التدوينة . ولكن نحن نتحدَّث هنا عن مجتمع كامل ولسنا نتحدَّث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط .


أعني لا يُمكن اعتبار الناس مُخالفين ومُسيئين لحد البعد عن روح الإسلام لأنهم يُمارسون أموراً خلقها الله تعالى فيهم ، ولكن الذي يُقاس به ذلك رجوعهم دوماً وأبداً إلى الله تعالى بعد الإساءة . ولا ننسى قوله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ». ولا أظن أحداً يُخالف في ذلك . ولا أظن أحداً سيُخالف أيضاً بأن الأحكام الجنائية في الشريعة ، والعقوبات الأخلاقية كلها قد طُبّقت إما في عهد الرسالة أو في القرن الثاني أو الثالث . ولا أظن أحداً سيُخالف أيضاً في أن كثير من الأمراض الاجتماعية ( النميمة - الإشاعات المُغرضة - الكذب - التحزُّب - الجرائم بأنواعها ... إلخ ) كانت موجودة أيضاً في تلك العصور ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفتأ يُحذّر منها ومن أثرها السيء على المجتمع المدني آنذاك . بل لقد طالت تلك الإشاعات المغرضة النبي وقائد الأمة شخصياً ( حادثة الإفك - والعدالة في تقسيم الغنائم إلخ) . بل لقد آثر رسول الله عليه الصلاة والسلام قطع الألسنة قبل أن تبدأ الإشاعة في قصة شهيرة ، وهو أعلم بمجتمعه وما فيه من عيوب .


لا أريد هنا أن أسرد الجرائم والمخالفات للتقليل من شأن إيمان الناس في تلك الفترة ، معاذ الله . فكما ذكرت في البداية ، لا يُقارن بجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين أحد أبداً في الأفضلية . ولكن غاب عن واضعي مناهج التعليم عندنا أن يؤكدوا علينا أن أولئك الصحابة رضوان الله عليهم كانوا بشراً مثلنا ، بكل عيوب البشر ومحاسنهم . فنشأ جيل يؤمن بأن الإسلام اليوم عاد غريباً كما بدأ ، وهذا في نظري قُصر نظر وقلّة اطلاع من أولئك . وهناك من يرى الجرائم والمخالفات اليوم فيتحسّر على تلك الأيام التي لم تكن تحدث فيها ، وما لا يعرفه أن مثل ذلك الزمان الذي يحلم به لم يُخلق بعد . دعونا لا ننسى يا سادة أن هذه الدنيا هي موضع اختبار بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، فإذا كان المجتمع لا يوجد فيه ما يُختبر الناس فيه على صبرهم وطاعتهم فأين إذاً ذلك الاختبار والابتلاء ؟ واقرأ قول الله تعالى : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) [سورة العنكبوت : ٢] .


ألم يوجد في عصر رسولنا صلى الله عليه وسلم مُدمنون لا يردعهم الحد ، ولم يُبعدهم ذلك عن قلب النبي الإنسان ؟ ألم يوجد زنا ؟ سرقة ؟ رشوة ؟ فساد مسؤولين ؟ ألم يكن هناك أشباه رجال ؟ ألم يحكم أبو بكر بالضرب حتى الموت على رجل تحرَّش جنسياً بصبي ؟ إلخ إلخ ... ناهيك عما وُجد في العصور اللاحقة إلى وقتنا هذا .


إن كُتب التاريخ (في وقتنا هذا) أيها القراء الكرام لا تُسجّل في الغالب إلا الصور المُشرقة لماضينا ، وكأنه يخلو تماماً من عكس ذلك . وكلكم يجد تأثير ذلك في نفسه إذا نظر إلى واقعنا الآن ، وأنا أقول لكم ارجعوا إلى مصادر التاريخ ، إلى من كتب من أهل تلك العصور وانظر بنفسك كيف تتطابق المجتمعات في كل زمان إلى درجة عجيبة . ثم ارفع رأسك واعمل جاداً لإصلاح مجتمعك الإنساني كما نهض رجال في تاريخنا وأصلحوا مجتمعاتهم . اقتدِ بعمر بن عبدالعزيز الذي لم يردعه الفساد عن محاولة الإصلاح الجادة ، ثم انظر إلى غيره من الخلفاء والوزراء والعلماء وغيرهم ممن حاول جاهداً وأسهم في تقدّم مجتمعه . كل أولئك لو أن اليأس دبّ فيهم كما هو في نفس معظمنا اليوم لما تقدّموا خطوة واحدة .


وجلد الذات الذي طالما حذَّر العقلاء منه ، وهو عادة في مجتمعاتنا منذ القدم لا أدري متى نتخلص منها ، واقرأ إن شئت قول الشاعر :
يعيب الناس كلهم الزمانا *** ومـا لـزماننا عـيب ســوانا
نعيب زماننا والعيب فـينا *** ولو نطق الزمان إذاً هجانا


قائل ذلك هو (ابن لنكك) يعكس صورة مجتمعه ، والشاعر متوفى سنة ٣٦٠هـ .


إن نقد الذات للتطوّر والتقدّم مطلوب ، ولكن جلد الذات يثبّط الهمم ويجعل الناس تيأس من مجتمعها فلا تسعى لإصلاح الحال . أسأل الله التوفيق لجميع المسلمين لكي ترتقي بهم الأمة وتزول الغمة . آمين .

هناك تعليق واحد:

  1. لقد قلت مالم يتجرأ غيرك قوله. لك التحية والإحترام

    ردحذف